تفيد الدراسات العلمية إلى أن الكون يحوي البلايين من المجرات، وجميعها تسير بنظام عجيب ودقيق، لا يمكن أن نتصور أن الصدفة العمياء هي التي أحكمت مثل هذا النظام! وقد أثبتت الأبحاث العلمية حقائق يقينية عن شكل الكون، وتوزع المجرات فيه «النسيج الكوني». كما تم تحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم، وتبين أن كل خيط من خيوط هذا النسيج يتألف من آلاف المجرات، وهذه المجرات قد رُصفت بطريقة شديدة الإحكام والإتقان، أي أن هذا النسيج محكم إحكاماً شديداً.
الكون
امجموعات من آلاف المجرات قد رُصت بإحكام شديد؛ فالخيط الكوني رفيع جداً، وطويل جداً، وعلى الرغم من ذلك نجده محكماً ومشدوداً بقوى كونية عظيمة. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عظمة هذه الخيوط ودقة صنعها وإتقانها؟ ومن هنا ربما ندرك لماذا أقسم الله بها في كتابه المجيد: {والسماء ذات الحبك} (الذاريات:7).
جاء "القاموس المحيط" أن "الحَبْكُ -بفتح الحاء وسكون الباء- هو الشد والإحكام، وتحسين أثر الصنعة في الثوب". و(الحُبُك) -بضم الحاء والباء- تجمع عدة صفات، منها أنها تشير إلى نسيج متعدد من خيوط محكمة مترابطة قوية متينة ومتماسكة. وتشير هذه الكلمة أيضاً إلى وجود نظام ما في هذه الخيوط؛ لأن الحائك عندما ينسج الثوب فإنه يستخدم نظاماً محدداً لنسج الخيوط، وهذا النظام يجعل النسيج محكماً، وإلا فإنه سيكون مفككاً وضعيفاً.
و(الحُبُك) -كما يقول المفسرون- كلمة تشير إلى النسيج المحكم. وينقل الإمام القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن {الحُبُك} هو الخَلْق الحسن المستوي. والنساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه: حبك الثوب يحبِكه حبكاً، أي: أجاد نسجه. وقال ابن الأعرابي: "كل شيء أحكمته وأحسنت عمله، فقد احتبكته".
وجميع هذه المعاني جمعتها الكلمة القرآنية {الحُبُك} وهذا من إعجاز القرآن أيضاً، أنه يعطينا التعبير الدقيق، ويترك البشر ليبحثوا ويكتشفوا ويغيروا مصطلحاتهم مع مرور الزمن، ولكنهم في النهاية عندما يتوصلون إلى الحقيقة اليقينية، فإنهم يجدونها واضحة في كتاب الله تعالى.
وقد فهم علماء الإعجاز العلمي هذه الآية بشكل يوافق الحقائق العلمية المكتشفة في القرن العشرين، ومنهم الدكتور زغلول النجار، الذي تحدث عن هذه الآية بقوله: "هنا يتضح جانب من الوصف القرآني للسماء، بأنها ذات (حُبُك) أي: ذات ترابط محكم شديد، يربط بين جميع مكوناتها، من أدق دقائقها -وهي اللبنات الأولية في داخل نواة الذرة- إلى أكبر وحداتها، وهي التجمعات المجرية العظمى إلى كل الكون". وختم حديثه بقوله: "وقد يرى القادمون في هذا الوصف القرآني ما لا نراه الآن؛ لتظل اللفظة القرآنية مهيمنة على المعرفة الإنسانية، مهما اتسعت دوائرها، وتظل دلالاتها تتسع مع الزمن ومع اتساع معرفة الإنسان في تكامل لا يعرف التضاد، وليس هذا لغير كلام الله".
جسم الإنسان
من جهة أخرى يتكون جسم الإنسان من أعضاء، كل عضو يتركب من نسيج، والنسيج يتكون من عدة خلايا، وهناك عدد من الأنسجة في جسم الإنسان، وكل منها له وظيفة، مثل النسيج العصبي، فمثلاً، إن أصغر وحدة بنائية في قيام الكائن الحي هي الخلية، والخلية تتكون في أبسط أحوالها من أجزاء بالغة التعقيد، لا يوازيها شيء مما صنعه عقل الإنسان من (كومبيوترات) معقدة وبرامج هائلة، بل وما تحويه كل مصانع العالم ومختبراته.
كما يوجد في كل خلية نواة؛ فكل ما نراه في الخلية إنما هو عبارة عن نواة و(سيتوبلازم) فحسب، ولكن تركيب الخلية أعقد من ذلك بكثير، (السيتوبلازم) ليس سائل فحسب، بل يحتوي على العديد من الأجهزة والمركبات الكيميائية، فهناك أجهزة تولد الطاقة التي تحتاجها الخلية تماماً، كمولد الكهرباء (الميتوكندريا)، وهناك أجهزة تعمل على بناء البروتينات التي تحتاجها الخلية (الرايبوسوم)، وهناك أجهزة تنقل المركبات الكيميائية من موقع الى آخر داخل الخلية تماماً، كشاحنات النقل التي تنقل المواد الأولية بين المصانع، وغيرها الكثير من الأجهزة، وباختصار، فإن هذه الخلية الصغيرة جداً هي عبارة عن مصنع يقوم بأعمال يعجز أن يعملها ألف مصنع بهذه الدقة والسرعة.
نظرة داخل النواة (الكروموسومات والشفرة الوراثية)
داخل النواة المركب الكيميائي المعقد، وهو ما يسمى بالحمض النووي (DNA) وهو مركب كيميائي يحتوي على عدد هائل جداً من المعلومات ما جعل العلماء يلقبونه بأكبر مخزن للمعلومات في هذا الكون، هذا الحمض النووي إذا أردنا أن نفرغ المعلومات التي يحتويها في كتاب، لاحتجنا الى موسوعة تتكون من مئات الآلاف من الصفحات، هذا الحمض النووي يحتوي كل ما يحتاجه الجسم من المعلومات، مثل لون الشعر، إطالة الشعر، البلوغ، طول الجسم، لون البشرة، لون العيون، فئة الدم، المعلومات التي يحتاجها الجسم لتكوين كل البروتينات التي يحتاجها (عددها يزيد عن المليون)، كل ذلك مسجل في الحمض النووي.
فالمواد الكيميائية هي شيء نراه كل يوم، والحمض النووي مادة كيميائية متكونة من السكر الخماسي، والقواعد النيتروجينية، والمجموعات الفسفورية، وما لا نراه هو مواد كيميائية تحمل معلومات، فلن نستطيع في أي مختبر كيميائي أن نفاعل مواد كيميائية مع بعضها لتنتج معلومات، ولا المواد الكيميائية نفسها يمكن أن تنتج معلومة، بل إن هذه المعلومات هي نتيجة لقدرة فائقة وابتكار الخالق سبحانه.
فالتصميم المتقن للحمض النووي هو ما أدى إلى إمكانية حدوث هذه الظاهرة، فالحمض النووي لديه المعلومات التي تجعله يضيف معلومات جديدة مفيدة للكائن الحي ويحفظها. وهكذا كل ظاهرة فيزيائية لها قيمة حسابية، وقانون رياضي معين، إن اختل قليلاً لكانت الحياة مستحيلة في هذا الكون، فهذا كله يدل على صنع الله الذي أتقن كل شيء.
إن خلايا جسم الإنسان تبلغ حوالي (100) تريليون خلية، وفي كل خلية توجد نواة واحدة، وفي كل نواة يوجد (64) (كروموسوم) مرتبة على شكل أزواج (23) زوجاً، وفي كل (كروموسوم) واحد توجد ظفيرة (حلزون) الـ (DNA)، وفي كل جزء من هذه الظفيرة توجد عدة جينات، والجين الواحد مؤلف من أربعة قواعد نتروجينية، مرتبة بشكل متسلسل ومتقابل ومنسجم (أي أن هناك ثلاثة بلايين قاعدة نتروجينية في الخلية الواحدة) كل ثلاث منها تكون حامضاً أمينيًّا، والأحماض الأمينية هي التي يتكون منها البروتين، الذي تتحدد به وعنه الوظائف الحياتية.
يصل طول التعليمات التي تحتويها ظفيرة الـ (DNA) إلى حوالي مترين، وكل جزيئة من هذا الحامض النووي الريبوزي تحتوي على عدد كبير من الجينات. ولكي نتصور مقدار المعلومات المخبوءة في جزيئات الـ (DNA) الموجودة في جسم إنسان واحد ومن خلال هذه الأرقام، فإن جزيئات الـ (DNA) الموجودة في خلايا جسم الإنسان كلها لو ربطت تعليماتها مع بعضها البعض لوصلت إلى سطح القمر، ورجعت منه ثمانية آلاف مرة، وإن غراماً واحداً من الـ (DNA) يختزن معلومات بقدر ما يختزنه ألف مليار قرص كومبيوتري.
الذرة
هي جسيمات دقيقة جداً تمثل أساس كل شيء حي وغير حي، يتألف الكون بما فيه الإنسان والحيوان والحجر والنبات والهواء والكواكب والنجوم وكل ما نستشعره أو نراه من ذرات بالغة الصغر، لا تُرى بالعين المجردة. فالذرة هي أصغر جزء من مادة عنصر كيميائي يمكن أن تنقسم إليه المادة، وتظل حاملة لصفاتها الكيميائية، هذا ينطبق على الهيدروجين أخف العناصر، كما ينطبق على أثقل العناصر المشعة، مروراً بالعناصر الكثيرة الوجود والعناصر النادرة سواء بسواء. وتتكون كل ذرة من نواة، وعدد من الإلكترونات، تتحرك في أغلفة مدارية، تبعد مسافة كبيرة جداً عن النواة، وتتألف من عدد معين من البروتونات موجبة الشحنة، ويصاحبها جسيمات لها وزن البروتونات نفسها، تسمى بـ (النيوترونات) متعادلة الشحنة.
يبلغ نصف قطر الذرة (0,00000001) سم، في حين يبلغ نصف قطر النواة (0,000000000001) سم. وعلى الرغم من ذلك، فإن كتلة النواة تشكل (99,95%) من كتلة الذرة، ما يعني أن كتلة الذرة كلها تقريباً مجمَّعَة في النواة.
السباحة الكونية
أخبر سبحانه في كتابه المبين أن كل شيء يدور في فلك محدد، قال تعالى: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون} (الأنبياء:33) تسير الكواكب في نظامنا الشمسي وَفْقاً لهذا المنطق؛ لأن من الطبيعي أن تستقر الكواكب ذات الكتل والسرعات المختلفة تماماً في مدارات مختلفة حول الشمس. إن الأرض تدور حول الشمس مرة كل (365.25) يوماً بسرعة مدارية تقدر وسطيًّا (67000) ميل في الساعة، وذلك في مدار نصف قطره المتوسط (93) مليون ميل، كما تدور الأرض حول محورها المائل في غضون أربع وعشرين ساعة عند خط الاستواء (25,000) ميل، أي أكثر من (1000) ميل في الساعة، وينشأ من الحركة المغزلية تعاقب الليل والنهار. ودوران الجرم حول نفسه، وحول شيء آخر يكون مصحوباً بحركة مغزلية ذاتية من الجسم المتحرك، ويتوازن الجرم في مداره بتعادل قوتين: أحدهما: الجذب العام لمركز الدوران. الثانية: رد الفعل أو القوة المركزية الطاردة التي تدفع الجرم خارج مركز الدوران تماماً، فالكون لا يعرف السكون، فكأن الحركة صفة سائدة تشمل حتى ما تراءى لنا ثباته وسكونه.
إن قوانين الفيزياء في الكون قد نشأت بعد الانفجار العظيم، وتستند هذه القوانين إلى (القوى الأساسية الأربع) المعروفة في الفيزياء الحديثة اليوم، وهذه القوى هي: قوة جذب الكتل المعروفة باسم القوة التجاذبية gravitational force هذه القوة مسؤولة عن تماسك الكون، وهي السبب في بقاء المجرات والنجوم الموجودة بالكون في مدارات محددة، فالكتل الكبيرة جداً تنجذب بواسطتها نحو بعضها البعض. والقوة الكهرومغناطيسية electromagnetic force تُبقي الإلكترونات في المدارات. والقوة النووية الشديدة strong nuclear force تضمن بقاء البروتونات والنيوترونات مع بعضها البعض في النواة. والقوة النووية الضعيفة weak nuclear force تحافظ على التوازن في النيوترون والبروتون. وتتسم كل واحدة من هذه القوى بشدة مميزة ومجال مؤثر. ولا تعمل القوتان النووية الشديدة والضعيفة إلا عند النطاق دون الذري، وتقوم القوتان التجاذبية والكهرومغناطيسية بالتحكم في تجمعات الذرات. وهذا ما أخبر عنه سبحانه بقوله: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} (فاطر:41) وفي حال حدوث أدنى زيادة في قيمة هذه القوة، تتصادم النجوم ببعضها البعض، وتصطدم الأرض بالشمس، وتنجذب نحو القشرة الأرضية. وتعمل كل القوى وفقا ًللحدود التي قدرها الله {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} (الفرقان:2).
فالسموات والأرض ومن فيهما وما فيهما في وحدة متناسقة متجانسة، وكأنها أجزاء في آلة واحدة، أو أعضاء في جسد واحد، أو لبنات في بناء متناسق بديع، كل لبنة منه في مكانها الصحيح، وهكذا كل شيء إنما هو بمقدار وميزان، قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر:49)، وهذه الوحدة المتناسقة في الخلق كله من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة من أعظم الأدلة على أن الخالق إله واحد لا إله إلا هو سبحانه، وأنه ليس هناك من ينازعه، أو يغالبه، أو يشاركه.
إبداع في الخلق
تحدث عملية الدوران التي تقوم بها الالكترونات والكواكب بشكل متواصل وبطريقة متقنة، في مسارات تسمى المدارات، ولا تتعرض ولو لحادثة صغيرة، وإن أي حادث صغير داخل الذرة من شأنه أن يتسبب في حدوث كارثة بالنسبة إليها، ومع ذلك لا يحدث مثل هذا الحادث مطلقاً، وتسير العملية بأكملها دون أخطاء، ذلك أن الإلكترونات التي تدور حول النواة بسرعة مربكة للعقل تبلغ ألف كم في الثانية لا تتصادم أبداً ببعضها البعض، ومن المدهش حقاً أن هذه الإلكترونات التي لا تختلف عن بعضها البعض في شيء، تدور في مدارات منفصلة، ومن الواضح أن ذلك نتيجة (خَلْق محكم) فلو كانت لهذه الإلكترونات كتل وسرعات مختلفة، فربما كان من الطبيعي بالنسبة إليها أن تستقر في مدارات مختلفة حول النواة. فعلى سبيل المثال، تسير الكواكب في نظامنا الشمسي وفقاً لهذا المنطق؛ لأن من الطبيعي أن تستقر الكواكب ذات الكتل والسرعات المختلفة تماماً في مدارات مختلفة حول الشمس، ولكن وضع الإلكترونات في الذرة مختلف تماماً عن وضع تلك الكواكب، فالإلكترونات متشابهة تماماً ولكنها تدور في مدارات مختلفة حول النواة، ولكن كيف تتبع الإلكترونات هذه المسارات دون إخفاق؟ وكيف لا تصطدم ببعضها البعض على الرغم من أبعادها المتناهية الصغر، وسرعاتها المدهشة التي تتحرك بها؟ تقودنا هذه الأسئلة إلى نقطة واحدة، تتجسد الحقيقة الوحيدة التي نواجهها في هذا النظام الفريد والتوازن الدقيق في الخلق المتقن الذي أبدعه الله سبحانه.
توجد قوة واحدة تُبقي كل القوى مع بعضها البعض في توافق، وهذه القوة هي قوة الله سبحانه، مالك كل قدرة وقوة، قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} (فاطر:41) فإن بقاء الكون كله في الوجود، من أصغر الذرات إلى المجرات اللانهائية مرهون بمشيئة الله وحفظه فحسب، يقول سبحانه في محكم آياته: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا} (الكهف:39) وقال أيضاً: {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب} (البقرة:165).
وحتى الآن، لم يستطع أي عالم أن يفسر سبب القوى الموجودة في الذرة ومصدرها، ومن ثم تلك الموجودة في الكون، والسبب أن بعض القوى تعمل في ظروف معينة، ولا يعمل العلم أكثر من غير تسجيل الملاحظات والقياسات، وتعيين (أسماء) لها، وتعد مثل هذه التسميات اكتشافات عظيمة في دنيا العلوم. وفي الواقع إن ما يقوم به العلماء هو مجرد جهد لفهم سر التوازن الجلي في الكون وتوضيحه، وكل ما يفعلونه إنما هو مجرد رصد لواحدة من عجائب خلق الله في الكون، التي لا حصر لها. وإذا تفكرنا في مخلوقات الله عرفنا أن الحكمة التي فيها من حكيم، والخبرة من خبير، والقوة من قوي، والصور البديعة من مصور بديع، والنظام الموحد المستقر المتسع من إله واحد. {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون:14).