ستوك تايمز
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ستوك تايمز

هذا منتدى في تطور مستمر من المواضيع ومن الفئات والمنتديات
 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 الوصية الخالدة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



المساهمات : 854
تاريخ التسجيل : 16/07/2014

الوصية الخالدة Empty
مُساهمةموضوع: الوصية الخالدة   الوصية الخالدة Emptyالسبت مايو 16, 2015 3:01 pm

ن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

من أين أبدأ والمحامد كلها
لك يا مهيمن يا مصوّرُ يا صمدْ
احترتُ في أبهى المعاني أن تفي
بجلال قدرِك فاعتذرتُ ولم أزدْ

أما بعد: فيا أيها الإخوة

"خطب عقَدية"
سلسلة إيمانية، الهدف منها: تحقيق أول واجب أوجبه الله على عباده، ألا وهو التوحيد بإفراده سبحانه بجميع أنواع العبادة، نتحدث في هذه السلسلة الكريمة عن أعظم كلمة عرفها الوجود، وأفضل كلمة شهدتها الأسماع، وأشهى كلمة تذوقتها ورددتها الألسنة والأفواه، تلك هي كلمة الإخلاص والنجاة كلمة" لا إله إلا الله ".

فتعالوا بناَ - أيها الإخوة - لنطوف سويًّا في بستان التوحيد الماتع اليانع نأخذ من كل شجرة فيه غصناً، ومن كل غصن نقطف زهرة، نستمد منها عبيرها وطيبها العطر الجميل، خاصة وأن هذا العبير وذلكم الطيب مستمد من عبيرٍ وطيبٍ قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله"[1].

وهذا هو لقاؤنا الأول -أيها الإخوة- وهو بعنوان " الوصية الخالدة ".

وسننظم سلك هذا الموضوع العظيم الجليل في العناصر الأربعة التالية:
أولاً: لحظات ثمينة.
ثانياً: التوحيد أولاً.
ثالثا: فلنتعرف إلى التوحيد.
رابعاً وأخيراً: كيف نحقق التوحيد في الواقع؟

أولاً: لحظات ثمينة: -أيها الإخوة-: إن أسعد فترات الحياة هي الفترات التي مرت على البشرية وهي على علاقة مباشرة واتصال لا ينقطع بالسماء، وهي تلكم الفترات التي عاش فيها أنبياء الله ورسله بين الناس، يبلغون عن الله رسالاته ويوصلون إلى خلقه أوامره ونواهيه، ولذلك بكى الفطناء الألباء الأذكياء لما انقطع هذا الاتصال بموت آخر الأنبياء، المصطفى صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – لِعُمَرَ رضي الله عنهم انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالاَ، لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟، مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ: مَا أَبْكِى أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنْ أَبْكِى أَنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا[2].

عاشت البشرية -أيها الإخوة- هذه الفترات تتربى على عين الله وتصنع بتوجيهه، يقوم بإرشادها إلى تنفيذ ذلك وتطبيقه خيرة خلق الله وصفوتهم، في قيادة حكيمة وريادة رشيدة، فعاشت البشرية في ظل ذلك أسعد فترات حياتها.

وإن أسعد هذه الفترات على الإطلاق لهي الفترة التي شهدت فيها الدنيا وسعدت فيها الحياة بأعظم من خلق الله وأفضل من اصطفاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي تقدر بعمر الزمن وتقدير الناس بثلاثة وعشرين عاما قضى النبي منها ثلاثة عشر في مكة المكرمة وعشرا في المدينة المعطرة (هذا بتقدير الزمان وأما بتقدير الحقيقة فليس لها حدود) عاش النبي صلى الله عليه وسلم، خلال هذه السنوات - طوال الأيام والليالي - يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يتلمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل وقوم المعوج ونشر أضواء الحق والتوحيد والإيمان على الدنيا كلها، كما تنشر الشمس أشعتها على الدنيا فتغمر الأكوان بضيائها.

عَمَّر النبي صلى الله عليه وسلم الحياة وأضاء الدنيا وأنارها يوم دعا الناس إلى نبذ الشرك والتمسك بالتوحيد، وترك الآلهة الكثيرة والاستمساك بعبادة العزيز الحميد، وصدع فيهم بقولة الحق في صيحته الخالدة: "يا أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"[3].
ومما زادني شرفاً وعزًّا
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن أرسلت أحمد لي نبيا

عاش النبي صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة - حياته كلها يعلم الناس معنى هذه الكلمة، وطريقة العمل بها، ووجوب الدعوة إليها والسعي لتبليغها، والحرص على أداء مقتضياتها.

حتى بدت في الأفق خاتمة هذه الدنيا الطيبة، ولاحت من بعيد طلائع التوديع لهذا العمر المبارك، وبدأت الأيام الأخيرة في حياة -المصطفى صلى الله عليه وسلم- العد التنازلي.

يوم تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، ساعتها أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره - صلى الله عليه وسلم- وتتضح بعباراته وأفعاله وأحوله:
فها هو قد أنزلت عليه سورة النصر: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3].

وها هو يعتكف في رمضان من السنة العاشرة، عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب قبل هذا، وتدارسه جبريل في رمضان الأخير القرآن الكريم مرتين، بينما كان لا يدارسه كل رمضان سبق إلا مرة واحدة[4].

فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه وأوحى بذلك إلى الناس في إشارات كثيرة

فقال في حجة الوداع: "إني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً"[5]

وقال -وهو عند جمرة العقبةَ-: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ"[6].

وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى أحد فصلى على الشهداء كالمودع للأموات والأحياء، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني - والله - لأنظر إلى حوضي الآن"[7].

وبالفعل - أيها الإخوة - في اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ - وكان يوم الاثنين - شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت حرارته حتى إنهم كانوا يجدون سورتها وأثرها فوق العصابة التي تُعصَّب بها رأسه، وبدأت أيام المرض التي دامت 13 أو 14 يوماً، وتتابعت الأيام سراعًا على رسول الله تقربه من الآخرة وتبعده من الدنيا، فيبقى من عمر المصطفى أيام معدودة، بقي خمسة أيام بقى أربعة أيام،بل ثلاثة ثم يومان ثم ساعات، وجاءت اللحظات الأخيرة، اللحظات الثمينة التي يودع فيها المصطفى الدنيا، إنها أثمن لحظات الحياة على الإطلاق نعم ولا ريب فبعد لحظات قليلة سيغلق الباب الذي بين السماء والأرض وينقطع وحي السماء عن الأرض.

إنها لحظات ثمينة، تلك اللحظات الأخيرة من حياة الصلة الفريدة، الصلة المباشرة بين الصفوة من الخلق وبين الخالق سبحانه، وفي لحظة من هذه اللحظات - أيها الإخوة - أراد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن يترك بين يدي الأمة كتاباً يكتبه لها، لا تضل الأمة بعده أبداً، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يوصي الأمة وصية ثمينة بقدر هذه اللحظات الثمينة التي بقيت له في الحياة، أو لنقل: التي بقيت للحياة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أراد المصطفى أن يوصي الأمة بوصية تحفظ على الأمة سيرها ومسراها وتضبط للأمة خطواتها في ممشاها، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم- وجعُه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تختلفوا بعده، فلما هموا بذلك نظر عمر فوجد النبي في غاية الإعياء ورأى أن لا يشقوا عليه، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللَّغًط فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع"[8].

فمات المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ولم يكتب ذلك الكتاب، وهذا من شؤم الاختلاف قال الحافظ الجليل ابن حجر: وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاف قَدْ يَكُون سَبَبًا فِي حِرْمَان الْخَيْر، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّة الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِين لَيْلَة الْقَدْر بِسَبَبِ ذَلِكَ "[9].

أيها الإخوة! حزن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل فوات هذه الوصية حزناً شديدًا بالغاً، لكنهم وهم الفطناء الألباء علموا أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بوصية عظيمة محفوظة إلى أن تقوم الساعة لا تتبدل ولا تتغير، نعم نظروا فوجدوا عوض تلك الوصية التي فقدوها بل هي بعينها وجدوها في كتاب الله تعالى وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: التوحيد أولاً.

أيها الإخوة! روى الترمذي وحسنه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه "، أي: التي كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل، من أراد أن ينظر إلى وصية محمد –صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151، 153]"[10].

آيات محكمات هن أم الكتاب كما قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما[11] هذه هي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسول الله أوصى بوصايا أولى هذه الوصايا أن أوصى بتوحيد الله جل في علاه كما توضح هذه الآيات ولهذا أيها الإخوة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على هذه الآيات الثلاث ففي مستدرك الحاكم وصححه من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيكم يبايعني على ثلاث، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات حتى فرغ منها [12]، وفي هذا - أيها الإخوة - ما يدعونا إلى تدبر هذه الآيات وبخاصة إذا لحظنا هذا الختام العجيب الذي ختمت به كل آية من الآيات الثلاث يقول سبحانه: "ذلكم وصاكم به "، أي هذا أوصاكم به ربكم -عز وجل- وأمركم به وأكد عليكم فيه.

قال ابن عطية: الوصية هي: الأمر المؤكد المقرر[13]، فهذه الآيات الثلاث أيها الإخوة هي وصية الله تعالى لعباده وهي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، لذلك وجب على كل من قرأ هذه الآيات أن يتدبرها ويتفهم ما فيها.

وإذا تأملنا أيضا ما بعد هذه الكلمة من الآيات وهي قوله تعالى في الآية الأولى" لعلكم تعقلون" وفي الآية الثانية" لعلكم تذكرون" وفي الآية الثالثة" لعلكم تتقون" ولهذا الترتيب سر كما قال شيخ المفسرين، قال الطبري: ذكر أولاً (لعلكم تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا فإذا تذكروا خافوا واتقوا. [14] "وإذا تدبرها الإنسان وعمل بها حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة المذكورة: العقل والتذكر والتقوى"[15].

فإذا نظرنا إلى هذه الوصية أيها الإخوة نجدها قد اشتملت على الأمر بعشر وصايا وكانت أولى هذه الوصايا العشر الأمر بتوحيد الله بدأ الله هذه الوصايا المؤكدات والأوامر الواجبات بالأمر بإفراده سبحانه بالعبادة وتوحيده -عز وجل- قال العلامة السعدي:[16] "يقول الله تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم- قل لهؤلاء الذين حرموا ما احل الله تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم تحريماً عاماً شاملاً لكل أحد محتوياً على سائر المحرمات.. وأول ذلك وأحقه الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ويعظم كما يعظم الله ألا تشركوا به شيئا لا قليلاً ولا كثيراً، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية، والإلهية وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحداً مخلصاً لله في جميع أحواله"، فهذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فهذا آكد الحقوق وأعظمها وأولها ولهذا بدأ به وجعله أولاً، ألم أقل لحضراتكم هذه هي وصية الله ووصية رسول الله بل وصية كل نبي إلى قومه ورسول إلى أمته قبل المصطفى؟ أوصى الأنبياء أقوامهم وأممهم أن يوحدوا الله تعالى، وأن يفردوه بالعبادة وانتبهوا أحبتي هذا أول أمر بدأ به كل نبي وكل رسول فإن دعوة الأنبياء والرسل على مدى التاريخ البشري كله كانت تستهدف أمراً واحداً وهو رد البشرية الضالة إلى ربها –جل وعلا- وهدايتها إلى طريقه وتربيتها على منهاجه وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ظلمات الشرك والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان وتزكية نفوس أبنائها وتهذيب أخلاقهم، وكانت نقطة البدء على هذا الطريق ولبنة الأساس الأول لهذا التيار الضخم الكبير هي دعوة الناس إلى التوحيد الشامل، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إلى العقيدة الصحيحة الصافية، ولذا كانت الصيحة الأولى لكل نبي ورسول: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].

بدأ بها نوح عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [هود: 25، 26].

وبدأ بها هود عليه السلام: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ [هود: 50].

وبدأ بها صالح عليه السلام: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73].

وهكذا إلى آخر الرسل الكرام وختام الأنبياء العظام.

فقد بدأ بها لبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وظل يدعو إليها في مكة ثلاثة عشر عاما كاملة لا تزاحمها في اهتمامه قضية أخرى بل لما انتقل إلى المدينة لم يدع - صلى الله عليه وسلم - قضية التوحيد وينتقل إلى غيرها، بل دعا إلى دعوة التوحيد ودعا إلى غيرها، فإن التوحيد ليس مرحلة زمنية ينتقل منه إلى غيره بل هو مهمة كل مرحلة ولذا ينتقل معه إلى غيره.

وبالجملة - أيها الإخوة - فما بعث الله نبيا ولا رسولا إلا كانت دعوته الأولى لأمته وقومه هي التوحيد بالأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك كما قال سبحانه: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].

لذا وجب على كل داعية أراد النجاح لدعوته أن يبدأ بما بدأ به سادة الدعاة إلى الله وقد كانت أول وصية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى بها أول داعية له إلى اليمن وهو معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن يدعوهم إلى التوحيد ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذًا إلى اليمن، قال: إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وفي رواية البخاري: إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"[17].

فأمره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأهم بالدعوة إلى التوحيد.

فالتوحيد أيها الإخوة هو الوصية الخالدة التي تعمقت عبر تاريخ البشرية ولا تزال تترسخ حتى نهايته، أوصى بها ربنا سبحانه وعمل على سبيلها كل نبي ورسول وجاهد من أجلها كل داعية صادق وكل مؤمن غيور، لأن التوحيد - أيها الإخوة - وأرجو أن تنتبهوا لهذا التأصيل الذي يغيب عن أذهاننا كثيرا فتختلط الحقائق وتتخبط الرؤىَ:
لأن التوحيد هو حق الله تعالى على عباده وواجبه عليهم الذي لا يقبل الله عملاً ولا يرضى عن عامل إلا إذا حقق هذا الحق وأتم هذا الواجب، ولذلك كان التوحيد هو الغاية من الخلق كما قال ربنا سبحانه" {﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]".

قال الحافظ ابن كثير: "خلق الله تعالى الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم"[18] فهذه هي وظيفة الخلق الأولى التي لأجلها خلقوا ولتحقيقها أوجدوا فاعملوا رحمكم الله على التعرف إلى التوحيد حتى تحققوه فتفوزوا بخيري الدنيا والأخرى.

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
فبين لنا الله تعالى الحكمة - من خلق الثقلين الإنس والجن وهي أنه إنما خلقهم لشيء واحد وهو العبادة ولهذا جاء بالحصر "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"حصر الحكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو أنهم يعبدونه، فالحكمة من خلق المخلوقات هي عبادة الخالق -سبحانه وتعالى-، خلق الله الجن والإنس للعبادة وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سخرها لهم ليستعينوا بها على عبادته -عز وجل- ومعنى ليعبدون، أيها الإخوة - أي يفردوني بالعبادة وهذا هو التوحيد الذي هو حق الله على عباده فإنه بذلك أمر أمراً مؤكداً مقرراً فقال: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فهذا أمر من الله بعبادته ونهي عن الشرك به، وهذا معنى لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها نفي الشرك وإثبات العبادة لله -سبحانه وتعالى- فقال سبحانه "واعبدوا الله"،أي أخلصوا العبادة لله وحده أي تقربوا بجميع أنواع العبادة إليه.

وقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23].

وقضى أي أمر وشرع فهذا أمر من الله -تعالى- واجب وتشريع حتم لازم أن لا نعبد إلا هو وحده سبحانه.

وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا".[19]

وهذا الحديث العظيم يبيّن أن حق الله على عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له بما شرعه لهم من العبادات، ولا يشركوا معه غيره، وأن حق العباد على الله -عز وجل- أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، ولا شك أن حق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فهو حق جعله الله سبحانه على نفسه، تفضلاً وكرمًا، فهو سبحانه الذي أوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم عدله ورحمته، كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم[20].

فالتوحيد أيها الإخوة هو حق الله على عباده الذي لا يقبل الله بدونه صرفا ولا عدلاَ، لا فرضاً ولا نفلاً، وهو أول واجب فرضه الله على عباده قبل الصلاة والصيام وغيرها من شرائع الإسلام.

فما هو التوحيد أيها الإخوة؟ وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: فلنتعرف إلى التوحيد.

أيها الإخوة التوحيد هو: العلم والاعتراف المقرون بالاعتقاد الجازم، بتفرد الله -عز وجل- بالأسماء الحسنى، وتوحده بصفات الكمال، والعظمة والجلال، وإفراده وحده بالعبادة[21]، قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163] قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "أي متوحد منفرد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فليس له شريك: في ذاته، ولا سَمِيَّ له، ولا كفء، ولا مثل، ولا نظير، ولا خالق ولا مدبر غيره؛ فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة، ولا يشرك به أحد من خلقه"[22].

ومعنى ذلك: إفراد الله -تعالى- بالعبادة جميعها فلا يصرف شيء من أنواع العبادة أبداً لغير الله بل نصرفها جميعها إلى الله وحده، فلا نقدم النذور والذبائح إلا لله ولا نطوف إلا ببيته الحرام، ولا ندعو إلا إياه، ولا نخاف إلا منه ولا نرجو سواه ولا نرغب ولا نرهب إلا لما في يديه الكريمتين جل في علاه، كما أننا لا نصلي إلا لله، ولا نصوم إلا له، ولا نزكي إلا له، ولا نحج إلا إلى بيته، فهذه وهذه كلها عبادات لا ينبغي أن يتقرب بها إلا إليه وحده.

وإذ أردنا أن نفهم التوحيد - أيها الكرام - فلابد أن ننظر إليه من زواياه الثلاث التي قامت عليها أدلة القرآن والسنة ألا وهي أقسام التوحيد.
الأول: توحيد الربوبية بمعنى أن نعتقد أن الله هو ربنا، ومعنى ذلك أنه الخالق، فلا خالق غيره،وأنه الرازق فلا رازق سواه، وأنه المدبر لأمورنا المتصرف في جميع أحوالنا فلا متصرف فيها إلا هو، قال عز شأنه ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الزمر: 62]، والحمد لله أن أحداً من الخلق كلهم لم يدع أنه خلق شيئاً ولذلك بقي التحدي إلى اليوم قائماً: "أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون؟" لا يحير المشركون ولا الموحدون إلا جواباً واحداً، وهو: الله كما قال سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25].

فالله هو الخالق لا خالق غيره، وهو كذلك الرازق لا رازق سواه ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ [يونس: 31]، الله هو الرازق، قال -تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58].

ولذلك تطلب كل الحوائج منه -عز وجل-.

لا تسألن بُنَيَّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب.

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب.

إذا سألت فاسأل الله.

ثانياً: من معاني الربوبية: المَلِكُ لكل ما في هذا الكون هو الله، فالكون كله من سمائه إلى أرضه ومن عرشه إلى فرشه بما فيه ومن فيه ملك لله وحده، فالملك كله لله والكون كله لله والخلق كله لله، قال -تعالى-: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84 - 89].

وقال -تعالى-: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾ [فاطر: 13].

ثالثاً: من معاني الربوبية السيادة والأمر والنهي وحق الطاعة على جميع الخلق قال سبحانه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، فجمع سبحانه بين الخلق والأمر فدل على أنه كما خلق فهو الذي يأمر عباده ويشرع لهم ما يشاء، وعليهم طاعته في ذلك كله.

هذا هو توحيد الربوبية، وهو الزاوية الأولى التي بها يستقر بناء التوحيد في قلب المؤمن وبه يستيقن العبد أن الخلق لله والملك لله والرزق بيد الله والنفع والضر والإحياء والإماتة والتصريف بحوله وقوته وحده، فيستقر الفؤاد ويرتاح الضمير لأن المستقبل بين يدي عدل رحيم ورءوف كريم، فلا يخاف من جور ولا يخشى من ظلم فلو تأمل العبد هذا التوحيد لسجد قلبه للعزيز الحميد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة.

والزاوية الثانية من زوايا التوحيد - أيها الأحبة - هي توحيد الألوهية ومعناه إفراد الله -تعالى- بالعبادة بأن لا يعبد المرء إلا الله -سبحانه وتعالى-، لا يصلي ولا يدعو ولا يذبح ولا ينذر ولا يحج ولا يعتمر ولا يتصدق ولا يتقرب بأي قربة إلا لله -عز وجل-، يبتغي بذلك وجه الله وترك عبادة ما سواه، وانتبهوا إلى هذا الشرط أيها الإخوة فإن التوحيد ليس إثبات الألوهية لله فقط بل لابد من إثبات الوحدانية بمعنى إثبات العبادة لله ونفيها عمن سواه، فلابد من الكفر بكل الآلهة والأنداد والأصنام والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة، كما قال ربنا سبحانه في كتابه: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [البقرة: 256]، هل تدري أيها الحبيب ما هي العروة الوثقى لقد قرأنا هذه الكلمة كثيرا لكن القليل هم الذين تساءلوا عن معناها فاسمع إذا: العروة الوثقى هي لا إله إلا الله، ومعنى هذه الكلمة الطيبة: الكفر بالطواغيت أجمعها والإيمان بالله وحده فاشترط الله الكفر بالطاغوت مع الإيمان به ليكون العبد موحداً.

فعلم أن التوحيد خلع كل الآلهة والكفر بهم وإثبات الوحدانية لله فقط وأنه لا إله إلا هو ولذلك علم كل نبي ورسول قومه ذلك كما قال عز من قائل: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ولاحظوا أيها الإخوة أنه سبحانه قال واجتنبوا الطاغوت، ما قال: اتركوا عبادة الطاغوت بل قال: اجتنبوا لأنها أبلغ يعني اتركوا كل الوسائل التي توصل إلى الشرك واجتنبوا الطاغوت.

وما هو الطاغوت؟ الطاغوت يطلق ويراد به الشيطان - لعنه الله - وهو رأس الطواغيت، ويطلق ويراد به الساحر والكاهن، ويطلق ويراد به الحاكم بغير ما أنزل الله، والذي يأمر الناس باتباعه في غير طاعة الله فالطاغوت - كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله- هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع[23] في غير طاعة الله فهو طاغوت.

فالله أمرنا بعبادته واجتناب الطواغيت التي تعبد من دونه -عز وجل-.

ما في الوجود سواك رب يعبد كلا ولا مولي هناك فيقصد

أنت الإله الواحد الحق الذي كل الجباه له تخر وتسجد

فالزاوية الأولى من زوايا بناء التوحيد المبارك في قلب العبد المؤمن الزاوية الأولى: توحيد الربوبية، الزاوية الثانية: توحيد الألوهية، الزاوية الثالثة: الإيمان بأسماء الله التي سمى بها نفسه وسماه بها رسوله وبصفات الله التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله –صلى الله عليه وسلم-.

كما قال سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، فيجب علينا أن نعرف أسماء الله وصفاته وأن نؤمن بها كما يجب علينا تنزيه الله -تعالى- عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم فليس معنى الاتفاق في الاسم الاتفاق في الحقيقة حاشا وكلا، فالله هو الله، الرب هو الرب والعبد هو العبد سبحان ربي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته جل عن النظير والشبيه والمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، هو المحمود والمدعو والمرجو والمعبود.

﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]: إذا اضطرب البحرُ، وهاج الموجُ، وهبَّتِ الريحُ، نادى أصحابُ السفينةِ: يا الله.

إذا ضلَّ الحادي في الصحراءِ ومال الركبُ عن الطريقِ، وحارتِ القافلةُ في السيرِ، نادوا: يا الله.

إذا وقعت المصيبةُ، وحلّتِ النكبةُ وجثمتِ الكارثةُ، نادى المصابُ المنكوبُ: يا الله.

إذا أُوصدتِ الأبوابُ أمام الطالبين، وأُسدِلتِ الستورُ في وجوهِ السائلين، صاحوا: يا الله.

إذا بارتِ الحيلُ وضاقتِ السُّبُلُ وانتهتِ الآمالُ وتقطَّعتِ الحبالُ، نادوا: يا الله.

إذا ضاقتْ عليك الأرضُ بما رحُبتْ وضاقتْ عليك نفسُك بما حملتْ، فاهتفْ: يا الله.

إليه يصعدُ الكلِمُ الطيبُ، والدعاءُ الخالصُ، والهاتفُ الصَّادقُ، والدَّمعُ البريءُ، والتفجُّع الوالِهُ.

إليه تُمدُّ الأكُفُّ في الأسْحارِ، والأيادي في الحاجات، والأعينُ في الملمَّاتِ، والأسئلةُ في الحوادث.

باسمهِ تشدو الألسنُ وتستغيثُ وتلهجُ وتنادي،وبذكرهِ تطمئنُّ القلوبُ وتسكنُ الأرواحُ، وتهدأُ المشاعر وتبردُ الأعصابُ، ويثوبُ الرُّشْدُ، ويستقرُّ اليقينُ؟ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ؟

الله: أحسنُ الأسماءِ وأجملُ الحروفِ، وأصدقُ العباراتِ، وأثمنُ الكلماتِ، ؟ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ؟؟!
اللهُ: فإذا الغنى والبقاءُ، والقوةُ والنُّصرةُ، والعزُّ والقدرةُ والحِكْمَةُ، ? لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ?.
الله: فإذا اللطفُ والعنايةُ، والغوْثُ والمددُ، والوُدُّ والإحسان، ? وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ?.
الله: ذو الجلالِ والعظمةِ، والهيبةِ والجبروتِ. [24]

الله
تسبحه نغمات الطيور
يسبحه الظل تحت الشجر
يسبحه النبع بين المروج
وبين الفروع وبين الثمر
يسبحه النور بين الغصون
يسبحه المساء وضوء القمر

الله
الشمس والبدر من أنوار حكمته
والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده
والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه
والنحل يهتف حمدا في خلاياه

الله!
إليك وإلاَّ لا تُشَدُّ الركائبُ
ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ
وفيك وإلا فالغرامُ مضيَّعٌ
وعنك وإلا فالمحدِّثُ كاذبُ

هذا هو التوحيد أيها الإخوة كما ينبغي أن نعرفه وكما يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمه وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا ربنا بالمسير عليه والالتزام به والتمسك به حتى نقدم عليه ونلقاه وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر اللقاء وخاتمة لابد منها: كيف نحقق التوحيد في الواقع؟ وسنتعرف إلى جواب هذا السؤال الجليل بعد جلسة الاستراحة بمشيئة الله وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.

أما بعد أيها الإخوة!
قال سبحانه في آيات الوصية: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون، وأمرنا الله -تعالى- بلزوم الصراط المستقيم في غير هذه الآية من القرآن كثير، فما هو الصراط المستقيم وكيف نتبعه؟ خاصة وأنه من الأهمية بالمكان والمكانة التي بها يهلك العبد إن حاد عنه ويهتدي إن اتبعه وسلكه روى أحمد بسند صحيح من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله: ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيمًا...... الآية [25]، وقال رجل لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد –صلى الله عليه وسلم- في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد (أي طرق) وعن يساره جواد، ثم رجال يدعون من قربهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهى به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة.

فما هو الصراط المستقيم أيها الإخوة؟
قال العلامة ابن القيم: الصراط المستقيم هو الطريق الذي نصب الله لعباده موصلاً إليه، ولا طريق إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه، وهو إفراده سبحانه بالعبودية، وإفراد رسوله صلى الله عليه وسلم بالطاعة فلا يشرك به أحداً في عبوديته، ولا يشرك برسوله -صلى الله عليه وسلم- أحداً في طاعته، فيجرد التوحيد لله ويجرد المتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".[26]

ثم يقول ابن القيم: "إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبة الله وحسن معاملته وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته.

الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله.

والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمدا رسول الله وهذا هو الهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به"."[27]

أيها الإخوة: فإذا كان هذا هو التوحيد وهذه مكانته ومنزلته وهذا معناه فكيف نطبق التوحيد في حياتنا وواقعنا؟ هذا هو لب الحديث وأصله، فليس التوحيد كلمات فحسب بل هو واقع وليس عبارات فقط بل هو حركة، وليس منهجاً نظرياً بل هو حياة قولاً وفعلاً واعتقاداً فمن أراد أن يحقق التوحيد في حياته وواقعه، فليصف توحيده من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع والمعاصي وإن وقع في شيء من ذلك تداركه بالأوبة والرجوع إلى الله.

من فعل هذا فقد حقق التوحيد واستحق فضل التوحيد وهو عظيم جليل وسوف نتحدث في اللقاء القادم عن فضل التوحيد إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء نسأل الله أن يدلنا عليه ويعلمنا ما به يقر في قلوبنا تعظيمه، اللهم إنا نسألك توفيق أهل الهدى وأعمال أهل اليقين ومناصحة أهل التوبة وعزم أهل الصبر وجد أهل الخشية وطلب أهل الرغبة وتعبد أهل الورع وعرفان أهل العلم حتى نخافك، اللهم إنا نسألك مخافة تحجزنا عن معاصيك حتى نعمل بطاعتك عملاً نستحق به رضاك وحتى نناصحك بالتوبة خوفاً منك وحتى نخلص لك النصيحة حباً لك وحتى نتوكل عليك في الأمور حسن ظن بك سبحان خالق النار اللهم فاجعلْ مكان اللوعة سلْوة، وجزاء الحزنِ سروراً، وعند الخوفِ أمنْاً. اللهم أبردْ لاعِج القلبِ بثلجِ اليقينِ، وأطفئْ جمْر الأرواحِ بماءِ الإيمانِ.

يا ربّ، ألق على العيونِ السَّاهرةِ نُعاساً أمنةً منك، وعلى النفوسِ المضْطربةِ سكينة، وأثبْها فتحاً قريباً. يا ربُّ اهدِ حيارى البصائرْ إلى نورِكْ، وضُلاَّل المناهجِ إلى صراطكْ، والزائغين عن السبيل إلى هداك.

اللهم أزل الوساوس بفجْر صادقٍ من النور، وأزهقْ باطل الضَّمائرِ بفيْلقٍ من الحقِّ، وردَّ كيد الشيطانِ بمددٍ من جنودِ عوْنِك مُسوِّمين. اللهم أذهبْ عنَّا الحزن، وأزلْ عنا الهمَّ، واطردْ من نفوسنِا القلق.

نعوذُ بك من الخوْفِ إلا منْك، والركونِ إلا إليك، والتوكلِ إلا عليك، والسؤالِ إلا منك، والاستعانِة إلا بك، أنت وليُّنا، نعم المولى ونعم النصير[28]..... الدعاء.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://6730.arabrevolution.biz
 
الوصية الخالدة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ستوك تايمز  :: الفئة الأولى :: المنتدى الأول :: منتديات الاسلامية السنية على مذهب اهل السنة والجماعة :: خطب جمعة مكتوبة-
انتقل الى: