بسم الله الرحمن الرحيم
حلية طالبِ العالم [تلخيصٌ كتبته قبل سنين لنفسي، ثم بدا لي نشرُه، لعل الله ينفع به أحدا]
قال سفيان الثوري: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
قال الأصمعي: أول العلمِ الصمتُ، والثاني: حسن الاستماع، والثالث: جودة الحفظ، والرابع: احتواء العلم، والخامس: إذاعته ونشره.
ومن بابِ الأدب: يقول ابنُ المبارك [طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم].
وقال مخلد بن الحسين [نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم] وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ [وقل رب زدني علما] قال [ اللهم زدني علمًا وإيمانًا ويقينًا ].
وكان ابن الجوزي وهو في الثمانينات يقرأ القراءات العشر، وما أعظمَ ابن طاهر المقدسي فقج بالَ الدمَ مرتين وهو يطلب الحديث، كان يمشي حافيا في الحر، وما ركب دابة في طلب العلم، ولا سأل أحدا طعاما، وأحملُ كتبي على ظهري، وقد قيل لابن المبارك ألا تستوحش وحدك قال : كيف يستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
آداب الطالب في نفسه:
(1) العلمُ عبادة، فالعلمُ صلاةِ السر، وعبادةُ القلب، ومن شرطِ العبادة الإخلاصُ للهِ تعالى، فإن فقدَ العلم إخلاص النيّة، انتقلَ من أفضل الطاعات إلى أحطِّ المخالفات، ولا شيء يحطّم العلم مثل الرياء، وقصد الشهرة، والتسميعِ، بأن يقول: علمتُ وحفظتُ!.
عن سفيان الثوري أنه قال [كنتُ أوتيت فهم القرآن، فلما قبلتُ الصرة، سُلبته] وقال [ما عالجتُ شيئًا أشدّ عليّ من نيتي].
(2) كن على جادة السلف الصالح، من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، متميزا بآثار الرسول عليه الصلاة والسلام، وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال والمراء، والخوض في علم الكلام.
(3) ملازمةُ خشيةِ الله، والتحلي بعمارة الباطن والظاهر، فأصلُ العلمِ خشيةُ اللهِ تعالى، ولا يعد العالم عاملا إلا إذا كان عالمًا، ولا يكون عالمًا إلا أن يلازمَ خشيةَ الله.
(4) دوامُ المراقبة، بأن تيسر إلى ربك بين الرجاء والخوف، فهما كجناح طائر، فأقبل على الله بكليتك، وليمتلئ قلبك بمحبته، ولسانك بذكره.
(5) تحل بآداب النفس، من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع للحق، وسكون الطائر، من الوقار والرزانة، وخفض الجناح، متحملاً ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق.
(6) واحذر داء الجبابرة، (الكبر) ، فإن الكبر والحرص والحسد أول ذنب عصى لله به ، فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان.
العلم حرب للفتى المعالي ** ** كالسيل حرب للمكان العالي
(7) القناعة والزهدُ، وحقيقة الزهد: الزهدُ عن الحرام، والابتعادُ عن حماه، بالكف عن المشتهات، والتطلع إلى ما في أيدي الناس، وقيل لمحمد بن الحسن: ألا تصنف لنا كتابًا في الزهد؟ فقال: قد صنفت كتابًا في البيوع.
(
التحلي برونق العلم، كحسن السمت، والهدي الصالح، من دوام السكينة والوقار والخشوع، فعن ابن سيرين قال: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم، وقال الخطيب البغدادي [يجب على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم، فأما متصلة وفاحشة وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة] وعن الأحنف بن قيس: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني لأبغض الرجل يكون وصافًا لفرجه وبطنه.
(9) التمتع بخصال الرجولة، من الشجاعة وشدة البأس في الحق، ومكارم الأخلاق، والبذل في سبيل المعروف.
(10) هجر الترفه، لا تسترسل في التنعم بالرفاهية، فإنه [البذاذة من الإيمان] وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه [وإياكم والتنعم وزي العجم، وتمعددوا واخشوشنوا] والحليةُ في الظاهر تدلُّ على ميلِ الباطن، فكيفيّة اللبس تعطي الناظر من الرصانة والتعقل، والتهيب والمشيخة، أو التصابي وحبّ الظهور.
(11) الإعراضُ عن مجالس اللغو، فلا تطأ بساط من يغشون في ناديهم المنكر، ويهتكون أستار الأدب، وعدم التكلم في الهيشات وكثرة اللغط، فإن تحتَ اللغطِ اللغط.
(12) لا بدّ من التحلي بالرفق في القول، وتجنبّ الكلمة الجافية، فإن الخطابَ اللين تألفُهُ النفوس الناشزة، ولا بدَّ من التحلي بالثبات في التلقي، والصبر إلى جفاء المعلم، فإن من ثبتَ نبت!.
كيفيّة الطلبِ والتلقّي:
(1) من لم يتقن الأصولَ حُرمَ الوصول، ومن رامَ العلمَ جملةً ذهبَ عنهُ جملةً، فلا بد من التأصيل والتأسيس لكل فن تطلبه، لا بالتحصيل الذتي، وأخذِ الطلب بالتدرج، [وقرآن فرقناه لتقرأه على الناسِ على مكثٍ ونزلناهُ تنزيلا] فاضبطْ على شيخٍ متقن، ولا تنتقل من كتابٍ لآخر حتى تنتهي من الأول، ولا تشتغلْ بالمطوّلات، واقتنصِ الفوائدَ والضوابطَ العلمية، فليكنْ طالبًا تقيًّا زكيًّا حاذقًا حييًّا لغَويًّا.
(2) تلقّي العلمَ عن الأشياخ، فالأصلُ في الطالبِ أن يدرسَ بطريقِ التلقين والتلقي والمثافنة عند الأشياخ، وقد قيل [ من دخلَ في العلم وحده خرجَ وحدَه ]
ولبعضهم:
من لم يشافه عالماً بأصوله ** ** فيقينه في المشكلات ظنون.
وكان أبو حيان كثيراً ما ينشد:
يظن الغمر أن الكتب تهدى ** ** أخاً فهم لإدراك العلوم
وما يدرى الجهول بأن فيها ** ** غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ** ** ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ** ** تصير أضل من "توما الحكيم.
أدبُ الطالبِ مع شيخه:
(1) رعايةُ حرمةِ الشيخ، ليكنْ شيخُك محلَّ إجلالٍ وإكرامٍ وتقديرٍ ولطف، وأحسن الجلوس عندَهُ، والاستماع إليه، وسؤالَه، والأدبَ في تفصحِ الكتاب، وعدمَ التقدم عليهِ بكلامٍ أو اعتراضٍ مقحَم في كلامه، أو الإلحاح في جواب، وكثرةَ التعنّت والجدال البيزنطي، ولا تكثر من السؤالِ أمامَ الملإ فإنهُ يورِثُ غرورًا، ولا تخاطبْه باسمِه أو كنيَتِهِ ولا تقل: يا شيخ فلان، بل: يا شيخي، يا شيخنا، كما الأدب مع الوالد.
(2) إذا بدتْ هفوةٌ من شيخكَ، فلا يسقَطَنْ من شيخِك، فإنَّهُ سببٌ لحرمانكَ من علمِهِ، ولا تسألهُ سؤالَ المختبِر الممتحن، وإن بدا لك الانتقالَ من مكانٍ لآخرَ فاستأذنْهُ، وبقدرِ الرعاة والحرمة يكون الفلاحُ والنجاحُ، وبقدرِ الفوتِ يكونُ من علاماتِ الإخفاق.
(3) تنبيهٌ مهم: احذر من صنيعِ الأعاجمِ والطرق المبتدعة، من الخضوعِ الخارجِ عن الشرع، كلحسِ الأيادي وتقبيل الأرجل والأكتاف، والمناداة بـ سيدي مولاي، ومثلها من ألفاظ العبيد.
(4) نشاطُ الشيخِ في درسِه، يكون على قدر مدارك الطالب في استماعه، وجمع نفسه، وتفاعل أحاسيسه مع شيخه في درسه، ولهذا فاحذر أن تكون وسيلة قطع لعلمه، بالكسل، والفتور والاتكاء، وانصراف الذهن وفتوره.
(5) احذر من التلقّي عن أهلِ البدع، الذين مسهم زيغُ العقيدة، وغشيتهم سحبُ الخرافة، يحكم الهوى ويسميه عقلا، ويعدلُ عن النص، وإن لم يعدل لواهُ لهواه، وقال الذهبي: إذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث، وهات (العقل) ، فاعلم أنه أبو جهل، وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر، أو قد حل فيه، إن جبنت منه فاهرب، وإلا، فاصرعه، وابرك على صدره، واقرأ عليه آية الكرسي، واخنقه" اهـ.
وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم، حذراً من شرهم، وتحجيما لانتشار بدعهم، وكسرا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ والعامي - والعامي: مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً، .. أما الأخذ عن علماء السنة فالعقِ العسلْ، ولا تسلْ!.
أدبُ الزمالة:
(1) قرينُ السوء، فكما أنّ العرقَ دساسٌ، فقرينُ السوءِ دسّاس، إذ الطبيعةُ نقّالة، والناس كأسرابِ القطا مجبولون بتشبه بعضهم لبعض، فاحذر معاشرتهم فإن الدفع أسهلُ من الرفع، وتخير زميلًا يعينك على مطلبك، ويقربُك إلى ربّك، ويوافقك على شريفِ غرضِك ومقصدك، فالصديقُ إما صديقُ منفعةٍ، وإما صديقُ لذة، وإما صديقُ فضيلة، فالأولان ينقطعان بانقطاع موجبهما، وأما الثالث فالتعويلُ عليه.
(2) من نفيسِ كلامِ هشام بن عبد الملك [ ما بقيَ من لذاتِ الدنيا شيء أرفعه إلا أخٌ أرفع مؤنة التحفّظ بيني وبينه ] وقال بعضهم [العزلةُ من غير عينِ العلم: زلة، ومن غير زاء الزهد: علّة].
آدابُ الطالبِ في حياتِه العلمية:
(1) كبر الهمة في طلبِ العلم، ولا تخلط بين كبر الهمة والكِبر فإن بينهما كما بين السماءِ ذات الرجع والأرضِ ذاتِ الصدع، وكبارُ الهمة ورثة الأنبياء، وأصحابُ الكِبر داء المرضى بعلة الجبابرة البؤساء، فارسمْ لنفسِكَ كبر الهمة.
(2) النهمة في طلب العلم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه [قيمة كل امرئٍ ما يحسنه] فعليكَ بالاستكثار من ميراثِ النبي صلى الله عليه وسلم، وابذلِ الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق.
الرحلةُ في طلبِ العلم:
[فمنْ لم يكن رحلة لن يكون رحلة] لأن هؤلاء العلماء الذين مضى وقت في تعلمهم، وتعليمهم، والتلقي عنهم: لديهم من التحريرات، والضبط، والنكات العلمية، والتجارب، ما يعز الوقوف عليه أو على نظائره في بطون الأسفار, واحذر القعود مثل المتصوفة [قيل لأحدهم: ألا تسمع من عبد الرزاق؟ قال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزق من سَمِعَ من الخلّاق] فلا للإسلام نصروا، ولا للكفر كسروا.
(3) حفظُ العلم كتابتُه، ابذلِ الجهد في حفظ العلم حفظَ الكتاب، لأن تقييدهُ أمانٌ من الضَّياعِ، وقصرٌ لمسافة البحث عند الاحتياج، فاجعل لك كناشًا أو مذكرة لتقييد الفوائد، قال الشعبي [إذا سمعتَ شيئًا فاكتبْهُ ولو على حائط].
(4) حفظُ الرعاية، بالعمل والاتباع، وليحذر أن يجعله سيبلًا لنيلِ الأعراض، أو طريقًا لأخذ الأعواض، واحذرِ الفخر والمباهاة، ونية اتخاذ الأتباع، وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه، وعن أبي قلابة أنه قال: يا أيوبُ إذا أحدث لك علمًا فأحدث له عبادة، ولا يكن همكَ أن تحدِّثَ بهـ وقال أحمد –رحمه الله-: ما كتبتُ حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مر بي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجمَ وأعطى أبا طيبة دينًار، فاحتجمت وأعطيت الحجامَ دينارًاتعاهدُ المحفوظات، فإن عدم التعاهد عنوان الذهاب للعلمِ كما كان، [إنما مثلُ صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت].
(5) التفقه، وهو أبعد مدىً من التفكر، لأنه حصيلته وإنتاجه، بتخريج الفروعِ على الأصول، والاستنباط في الأحكام، والبحث في فوائد الحديث، واستخراج كنائزه ودفائنه.
(6) اللجوء إلى اللهِ في الطلبِ والتحصيل، فلا تجزع إذا لم يفتح لك في علم من العلوم، فإن الله قد يفتح عليك في آخر، فلم يفتح للأصمعي في العروض، وابن الصلاح في المنطق، وأبو مسلم النحوي في التصريف، والسيوطي في الرياضيات، وأبو عبيدة وأبو حامد الغزالي وغيرهم في النحو، فضاعفِ الرغبةَ في اللجوء إلى الله والدعاء والانكسار بينَ يديه.
(7) الأمانةُ العلمية، تجبُ الأمانة في الطلب في التحمل والبلاغ والأداء، ومن بركة العلمِ نسبتُه إلى أهلِهِ.
(
الصدق، فصدقُ اللجهة عنوانُ الوقار، وشرف النفس ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، وصيانة الديانة، قال الأوزاعي –رحمه الله-: تعلم الصدق قبل أن تتعلم العلم، وقال وكيع: هذه الصنعة لا يرتفع فيها إلا صادق، وقال الزهري: إن للعلمِ غوائلَ، فمن غوائله أن يترك العمل فيه حتى يذهب، ومن غوائله النسيان، ومن غوائله الكذب فيه، وهو شر غوائله.
(9) إجمامُ النفس، خذْ من وقتِكَ ساعات تجمّ بها عن نفسِكَ في رياضِ العلم من قراءةٍ في الثقافةِ العامّة، وعن عليّ بن أبي طالبٍ –رضي الله عنه-[أجموا هذه القلوب، وابتغوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملُّ كما تملُّ الأبدان].
(10) الجرد للمطولات من أهم المهمات، لتعدد المعارف وتوسيع المدارك واستخراج مكنونها من الفوائد والفرائد والخبرة من مظان الأبحاث والمسائل ن ومعرفة طرائق المصنفين في تأليفهم واصطلاحهم فيها.
(11) حسنُ السؤال، فإذا جلستَ إلى عالمٍ فسل تفقهًا لا تعنتًا، وللعلمِ ستّ مراتب: حسنُ السؤال، وحسنُ الإنصاتِ والاستماع، وحسنُ الفهم، والحفظُ، والتعليمُ، والعملُ وهي ثمرتُه.
(12) المناظرةُ بلا مماراة، إياكها فإنها نقمة، أما المناظرة في الحق فإنها نعمة، لأنّ فيها إظهارَ الحق، والراجحَ على المرجوح، فهي مبنية على المناصحة، والحلمِ، ونشرِ العلم.
(13) مذاكرةُ العلم، تمتعْ بالبصراءِ بالمذاكرة والمطارحةِ، فإنها في مواطنٍ تفوقُ المطالعة، وتشحذُ الهمة، وتقوّي الذاكرة، ملتزمًا الإنصافَ والملاطفة، مبتعدا عن الحيفِ والمجازفة، وكنْ على حذرٍ فإنها تكشفُ من لا يصدق، فإن كنتَ مع قاصر في العلم، بارد الذهن، فهي داء.
التحليْ بالعمل:
(1) حظَّك من العلم النافع، تساءل عن حظكَ من العلمِ النافعِ، أيْ من العملِ به، وكراهيةِ التزكيةِ، والمدحِ والتكبّرِ على الخلقِ، وتكاثر تواضعك كلما ازددتَ علمًا، وهجر دعوى العلم، وإساءة الظن بالنفس، وإحسانِه بالناس، وكان ابنُ المبارك يقول إذا ذُكر أخلاقُ من سلف:
لا تعرضنْ بذكـرنا مع ذكــرهم ** ** ليسَ الصـحيحُ إذا مـشـى كالمقـعَدِ
(2) زكاةُ العلم: أدّ زكاةَ العلم صادعًا بالحق آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، موازنًا بين المصالح والضار، ناشرًا للعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم [إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له] رواه مسلم وغيره، قال بعض أهل العلم: هذه الثلاث لا تجتمع إلا للعالم الباذل لعلمه فبذله صدقه ينتفع بها والمتلقي لها ابن للعالم في تعلمه عليه، ولشرفِ العلم فإنه يزيدُ بكثرةِ الإنفاقِ فيه، وينقص مع الكتمان.
(3) عزةُ العلماء، فاحذر أن يتمندلَ بك الكبرياءُ، أو يمتطيكَ السفهاءُ فتلاين في فتواك، ولا تسْعَ به إلى أهل الدنيا، وتقف على أعتابِهم، ولا تبذله لغيرِ أهلِه، ومتّع بصركَ وبصيرتَك بقراءةِ التراجمِ والسير لأئمةٍ مضو، ترَ فيها بذلَ النفس في هذه الحماية.
(4) صيانة العلم، إن بلغتَ منصبًا فاعلم أن حبل الوصلِ إليه طلبَك للعلم، فبفضل الله ثم علمُك ما بلغتَ ما بلغت من ولاية في التعليم، أو القضاء، أو الإفتاء، فالزمِ المحافظة على قيمتكَ بحفظ دينك وعلمك، وشرفِ نفسك.
(5) الغرامُ بالكتب، شرفُ العلم معلوم، لعمومِ نفعهِ وشدة الحاجة إليه كحاجةِ البدنِ إلى الأنفاس، واعلم أنه لا يغني كتابٌ عن كتاب، ولا تحشر مكتبتك وتشوش على فكرك بالكتب الغثائية فإنها سمٌّ ناقعٌ، ولا تقرأ كتابًا حتى تعرف اصطلاح مؤلفه، وذلك بقراءة مقدمته أولًا، وإذا حزت كتابًا فلا تضع في مكتبتك حتى تجرد مقدمته وفهرسته.
المحاذير:
(1) احذر من التصدر قبل التأهل، فهو آفة العلم والعمل، ومن تصدر قبل أوانهِ فقد تصدى لهوانِهِ، واحذر من التنمّر بالعلمِ بأن تراجعَ مسألةً أو مسألتين ثم تثير البحثَ فيهما ليظهرَ علمُك.
(2) إذا رأيتَ وهمًا لعالمٍ سبق، فلا تفرح بالحطِّ منهُ، ولكن افرح لتصحيح العلم، فإنه ما من منصف إلا ويجزم بأنه ما من إمام إلا له أوهام وأغلاط خاصة إن كانَ من المُكثرين، وما يفرح بهذا إلا متعالمٍ يريدُ أن يطبَّ زكامًا فيحدِث به جذامًا.
(3) دفعُ الشبهات، فلا تجعل قلبك كالسفنجة تتشربُ كل ما يُصب عليها، فالشبه خطافة والقلوب ضعيفة.
(4) احذرِ اللحن، فعن عمر رضي الله عنه [تعلموا العربية فإنها تزيدُ في المروءة] وكانَ السلفُ يضربونَ أولادهم على اللحنِ.
النحوُ يبسط من لسانِ الألكنِ ** ** والمرءُ تكرمه إذا لم يلحنِ
فإذا أردتَ من العلومِ أجلَّها ** ** فأجلها منها مقيم الألسنِ
(5) احذر الإجهاض الفكري، وذلك بإخراجِ الفكرة قبل نضجها.
(6) احذر من الجدل البيزنطي، فقد كانوا يتحارون في جنس الملائكة، والعدو على أبوابهم حتى داهمهم، وسمعَ الحسنُ قومًا يتجادلون، فقال [هؤلاءِ قومٌ ملوا العبادة، وخفّ عليهم القول، وقلّ ورعهم، فتكلموا].
(7) سمةُ أهل الإسلام، هو الإسلام دون الخروج والولوج في الجماعات، ولا طائفية ولا حزبية في الإسلام سوى الإسلام، وإياك أن تعقد سلطان الولاء والبراء على الأحزابِ الغالية والطوائف الجافية، بل كن طالب علم سلفي على الجادة تقفو الأثر، وتتبعُ السنن، تدعو إلى الله على بصيرة، عارفًا لأهل الفضلِ فضلهم، وما الأحزابُ إلا كالميازيب تجمعُ الماء كدرًا وتفرقه هدرًا
قال ابنُ القيم –رحمه الله- : العلامة الثانية: قوله: "ولم ينسبوا إلى اسم"؛ أي: لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاماً لأهل الطريق.
وأيضاً؛ فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه، فيعرفون به دون غيره من الأعمال؛ فإن هذا آفة في العبودية، وهي عبودية مقيدة.
وأما العبودية المطلقة؛ فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها؛ فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم؛ فلا يتقيد برسم ولا إشارة، ولا اسم ولا بزي، ولا طريق وضعي اصطلاحي، بل إن سئل عن شيخه؟ قال: الرسول. وعن طريقه؟ قال: الأتباع. وعن خرقته؟ قال: لباس التقوى. وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة. وعن مقصده ومطلبه؟ قال: (يريدون وجهه) . وعن رباطه وعن خانكاه؟ قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له
فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) . وعن نسبه؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه ** ** إذا افتخروا بقيس أو تميم
وعن مأكله ومشربه؟ قال: "مالك ولها؟ معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وترعى الشجر، حتى تلقى ربها".
واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت ** ** ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ** **ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل
وأما نواقضُ هذه الحلية فأعظمُها: إفشاءُ السر، ونقل الكلامِ من قومٍ لآخرين، والصلفِ واللسانة، وكثرةِ المزاح، والحقدِ، والحسدِ، وسوءِ الظن، ومجالسة المبتدعة، وادعاءُ العلم، وتحقير الآخرين.
فاحذر هذه الآثام وأخواتها واقصر خطاك عن جميع المحرمات فإن فعلت وإلا فاعلم أنك رقيق الديانة خفيف لعاب مغتاب نمام فأن لك أن تكون طالب علم يشار إليك بالبنان منعماً بالعلم والعمل.
سدد الله الخطى ومنح الجميع التقوى وحسن العاقبة في الآخرة والأولى
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع:
حليةُ طالب العلم، للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
من هدي السلف في طلب العلم، للشيخ محمد الزهراني.
المشوق إلى القراءة وطلب العلم، للشيخ علي العمران.
واعلَمْ بأنَّ العلمَ بالتَّعلُّمِ ... والحفظِ والإتقانِ والتفهُّمِ
والعلمُ قد يُرزَقه الصغيرُ ... في سنِّه ويُحرَمُ الكبير
وإنَّما المرءُ بأَصْغَريْهِ ... ليس برجليْه ولا يديْهِ
لسانُه وقلبُه المركَّبُ ... في صدرِهِ وذاك خَلْقٌ عَجَبُ
والعلمُ بالفهمِ وبالمذاكرَهْ ... والدرسِ والفكرةِ والمناظرَه
فربَّ إنسانٍ يَنال الحِفْظَا ... ويُوردُ النصَّ ويَحكي اللَّفْظاَ
وما له في غيرِهِ نصيبُ ... مِمّا حواه العالمُ الأديبُ
وربّ ذي حرصٍ شديد الحبِّ ... للعلمِ والذَكر بليدِ القلبِ
معجز في الحفظِ والروايهْ ... ليستْ له عمَّن رَوَى حِكايهْ
وآخَرُ يُعطى بلا اجْتهادِ ... حفظاً لما قد جاء في الإسنادِ
يهذّه بالقلب لا بناظرهْ ... ليس بمضطرٍ إلى قَماطِرهْ
فالتمسِ العلمَ وأَجْمِل في الطلَبْ ... والعلم لا يَحسنُ إلا بالأَدَبْ
والأدبُ النافعُ حسنُ الصمتِ ... وفي كثير القولِ بعضُ المقتِ
فكُن لحسن الصمت ما حَيِيتَا ... مقارفاً تُحمد ما بقيتَا
وإنْ بدت بين أناسٍ مسألهْ ... معروفةٌ في العلمِ أو مُفتعَلهْ
فلا تكن إلى الجوابِ سابقا ... حتى تَرَى غيرَك فيها ناطقا
فكم رأيتُ من عجولٍ سابقِ ** ** من غير فهمٍ بالخطأ ناطقِ
أزرى بهِ ذلك في المجالسِ ** ** عند ذوي الألبابِ والتنافسِ
وقُلْ إذا أعياكَ ذاك الأمرُ ** ** ما لي بما تسأل عنه خُبْرُ
فذاك شطرُ العلمِ عند العلما ** ** كذاك ما زالتْ تقول الحُكما
والصمت فاعلم بك حقاً أزينُ ** ** إنْ لم يكن عندك علمٌ متقنُ
إياك والعُجبَ بفضلِ رأيِكا ** ** واحذر جوابَ القولِ من خطائكا
كم من جوابٍ أعقبَ الندامهْ ** ** فاغتَنِمِ الصمتَ مع السَّلامهْ
العلم بحرٌ منتهاه يبعدُ ** ** ليس له أحدٌ إليه يقصدُ
وليس كلُّ العلمِ قد حويتَه** ** أجَل ولا العُشر ولو أحصيتَه
وما بَقِي عليكَ منه أكثرُ ** ** مما علِمتَ والجوادُ يَعْثُرُ
فكُنْ لما سمعتَهُ مستفهِما ** ** إن أنتَ لم تفهمْ منه الكلِما
القولُ قولانِ: فقولٌ تعقِلُهْ ** ** وآخرُ تسمعُهُ فتجهَلُهْ
وكلُّ قولٍ فلهُ جوابُ ** ** يجمعُهُ الباطلُ والصواب
وللكلامِ أولٌ وآخِر ** ** فافهمهما والذهنُ منك حاضرُ
فربما أَعْيا ذوي الفضائلِ ** ** جوابُ ما يُلقى من المسائل
فيُمسكوا بالصمتِ عن جوابه ** ** عند اعتراضِ الشكِّ في صوابه
ولو يكون القولُ في القياسِ ** ** من فضَّةٍ بيضاءَ عند الناسِ
إذا لكان الصمت من خير الذهب ** ** فافهم هداك الله آداب الطلبْ.